تشجيع الإبداع وتحفيزه دعم الثقافة يتطلب استراتيجية جديدة تعتمد تفكيك المصطلحات وإعادة تركيبها
تطالعنا الأخبار القادمة من المراكز الثقافية كل يوم، وكذلك برامجها الشهرية بكثافة عقد المهرجانات والفعاليات المتنوعة التي بمحصلتها المالية تلتهم ملايين الليرات شهرياً على ساحة توزع تلك المهرجانات قطرياً، وقد يكون من الملاحظ في كثير من البرامج الشهرية حالة من “الحشو” لجهة التكرار وعدم الفعالية، ويدل على ذلك حجم الحضور الذي لا يتعدى مقاعد الصفين الأول والثاني، باستثناء بعض الفعاليات أو المهرجانات التي تغري الحضور بشهادات تكريم وبطاقات الشكر على جهود مبذولة ليتقاسم طرفا التكريم المصلحة المشتركة في الظهور والبروز، وهنا نقف ونتساءل: ما هو الدور الذي تقوم به مراكزنا الثقافية لمعالجة حالة الانزياح الثقافي الحاصل في مجتمعنا؟ وما هي أهمية الانتقال إلى حالة الاستثمار الثقافي كرافد مهم من روافد الاقتصاد الوطني في ظل شح مداخيل هذا الاقتصاد؟.
لا شك أن هذه الأنشطة المختلفة والمتنوعة تكتسب أهمية كبيرة لجهة كونها تعكس إرادة الحياة عند السوريين، وتعكس حالة تعاف ونهوض في مجتمعنا بعد سنوات طويلة من المعاناة، والآثار التي أفرزتها الحرب على سورية في مختلف الاتجاهات والأصعدة، ومنها تلك الآثار التي انعكست على القيم، والمفاهيم الثقافية، والأفكار السائدة لدى أبناء المجتمع الذي كثيراً ما تحدث عن تماسكه وانسجامه، إلا أن الحرب أفرزت سلوكيات وانتماءات متفاوتة أثّرت على قيم البعض، وقد رافقتها محاولات خارجية لإنشاء ثقافة جديدة تقوم على الإقصاء والتطرف باستخدام المال والخطاب الديني المتشدد، في حين حافظ وعي أغلبية السوريين، وقيم التسامح، والعيش المشترك لديهم على الدولة السورية من الانهيار، وكوّن هذا الوعي أملاً عند أبناء الوطن في الخروج من تداعيات الأزمة أكثر قوة وتماسكاً، سواء على الصعد الفكرية، أو البنية الاجتماعية للمجتمع السوري.
كشفت الساعات الأولى للمؤامرة عن استهداف أطراف إقليمية ودولية للانتماء والهوية السورية عن طريق تأجيج الصراع بالمال والسلاح والإعلام، ونشر ثقافة العنف وخطاب الكراهية، وعلى الرغم من صمود الهوية السورية أمام هذه المخاطر، فإن الحاجة إلى تعزيز قيم المواطنة وحماية الهوية الوطنية تبدو ضرورية أكثر من أي وقت مضى، خاصة مع اتجاه الأمور نحو الاستقرار، ويشير هنا الدكتور فايز عز الدين، وهو باحث وخبير في الشؤون الاستراتيجية، إلى أن تناول المسألة الثقافية يحتم علينا الحديث عن العلاقة بين السياسة والثقافة، والفرق بينهما، والأدوار المتبادلة، وبالتالي يجب تفكيك المصطلحات، واليوم بمراجعة الواقع الذي نعيش نجد أن الجهد الدولي يركز على تخريب الثقافة السورية المكوّنة تاريخياً، والمعتمدة على النسيج السوري الواحد، والائتلاف السوري الواحد، إن كان سياسياً في إطار الجبهة الوطنية التقدمية، أو ثقافياً في إطار وعي علمي اجتماعي موضوعي متمسك بالعلم أكثر من الخرافة، فإحدى ميزات الثقافة السورية قبل الأزمة أنها كانت ثقافة التمسك بالعلم والعلمانية، ومقاومة للتعصب والتطرف، وهي ثقافة اجتماعية منفتحة تنظر إلى المجتمع على أنه كتلة اجتماعية أكبر من التقسيمات الطائفية أو القبلية، فنجد أن الأدوار الوطنية للقبيلة تخرجها من قبيلة اجتماعية محدودة الأرض والجغرافيا إلى قبيلة وطن.
وبيّن عز الدين أن الأزمة أعادت بناء المفهوم القبلي الضيق، وهناك ضغط دولي كبير لتسويق فكرة الحرب الأهلية، ولكنه لم يستطع إثبات ذلك، والوعي الاجتماعي الموجود دحض ذلك، والتفكير الثقافي للحرب على سورية لم يحصل كما أريد له، وهو تسويق فكرة الحرب الأهلية الداخلية، حيث أفشل السوريون هذا التفكير.
وبيّن عز الدين أنهم أرادوا إزاحة المفاهيم الثقافية السائدة من ثقافة وطنية إلى ثقافة رجعية قبلية، واستطاعوا الدخول إلى عقول مجموعة لابأس بها من السوريين، وكان هناك فرز واضح بين الثقافة الوطنية والثقافة اللاوطنية، حيث أخذوا نسبة من أبناء المجتمع إلى الثقافة اللاوطنية، وغرسوا في أذهانهم فكرة أن مفاتيح البلد وحل أزمتها في الخارج، وفي الوقت ذاته أدخلت المجموعات الإرهابية التكفيرية مفهوم سلطة الله على الأرض، وتعميم أسلوب القتل والتكفير، وبالتالي أصبحنا اليوم أمام ثقافة تزوير دولية تضخ إلينا عبر الإعلام، وكذلك نحن اليوم لم نستطع الفرز في الوطنية ذاتها بين وطنية النسيج المشترك بين السوريين، والأدوار التي يلعبها البعض كممثّلين عن الشعب رغم وجود فرق بين الثقافة الوطنية والأداء السياسي، وبالتالي لم نستطع توظيف الثقافة في تصويب الأدوار السياسية للشعب، وبالتالي لابد من التأسيس للثقافة الوطنية عبر المؤتمرات، والعمل على الثقافة الحاضرة اليوم كونها السلاح الأول في مواجهة عقابيل الحرب، ومكملة للأدوار العسكرية التي مهمتها إنهاء الجرائم الإرهابية، بينما الأدوار الثقافية تعيد عقلنة العقل، فاليوم نحن أمام ثقافات انزاحت فيها القيم الواقعية والموضوعية.
وبيّن عز الدين أن رسالتنا السياسية اليوم هي حماية الوطن، وإنهاء الإرهاب منه، وإنهاء كل أشكال التعصب والتطرف والانغلاق، وهنا لابد من وجود نخب ثقافية تحمل المشروع الوطني الثقافي، وتقوم بوضع استراتيجية واضحة محددة المعالم للثقافة السورية تعتمد على الأقانيم الخمسة، وهي: الأمة، والعروبة، والوطنية، والإسلام، والقومية، ونقاط التوافق حول كل اقنيم من هذه الأقانيم، وهذه الاستراتيجية تحدد الأهداف العامة والمرحلية، وما هي الشعارات، وتنظم الحياة الثقافية للبلد، ولابد أيضاً من وضع ميثاق ثقافة وطنية تلتزم به الوزارات المعنية كالثقافة، والإعلام، والأوقاف، والمنظمات الشعبية، والأحزاب الوطنية، والمجتمع المدني.
هنا لابد من إعادة النظر في مختلف القضايا الثقافية، وصلتها بالسوريين في مرحلة ما بعد الحرب عبر إيجاد سياسات ثقافية تشجع الإبداع، والتفكير لتحصين الإنسان السوري معرفياً وثقافياًَ، يقول مدير ثقافة السويداء باسل الحناوي: إن الثقافة تساهم في تعزيز الانتماء، وبناء الهوية وشخصية الإنسان، وبناء الوعي عنده، وتعزيز مفاهيم التنوع الثقافي في المجتمع، وهنا تلعب الوزارة دوراً في تأمين البنية التحتية اللازمة لإيصال الثقافة لكل إنسان عبر المسرح، والموسيقا، والأدب، والشعر، والرسم، إضافة إلى الثقافة الموجودة وهي البناء الفكري، وهذا كله يساهم في بناء قيم المجتمع، والأفكار الصحيحة فيه لبناء إنسان قادر على تقبّل الآخر بمكوناته المختلفة، والاتفاق على مفهوم العيش المشترك بما يخدم الحالة الوطنية، واليوم بعد أن تعرّضت تلك القيم إلى أضرار جراء الحرب الفكرية التي تعرّض لها الوطن عبر الحرب الإعلامية، بيّن مدير الثقافة أن دور وزارة الثقافة اليوم هو بناء المفاهيم مجدداً عبر وضع خطط استراتيجية لمواجهة القيم الخاطئة التي سادت، ففي حين أن مصادر الثروة في “سورية” تعتمد على الأرباح الناتجة عن قطاعات كالزراعة والعقارات، فإن المعرفة والمشاريع العلمية والتقنية المتقدمة، على الرغم من الأرباح العالية التي تنتج عنها، لم تتحول بعد إلى مصدر للثروة ينافس المصادر التقليدية.
وتابع الحناوي: مازال مفهوم الاستثمار الثقافي غير سائد رغم أهميته في الدخل القومي، حيث تصل قيمة الاستثمارات الثقافية إلى 124 مليار دولار سنوياً بشكل عالمي، وهنا يشير الحناوي إلى أن الثقافة هي اقتصاد مربح، لكننا لم نستثمرها بعد، فهناك مثلاً مدن تعيش على المهرجانات السنوية تحقق مردوداً اقتصادياً هاماً لتلك المدن عبر الحراك الذي تصنعه تلك المهرجانات، ومثال آخر الفرق الفنية التي يتم تأسيسها في المدن وتجوب في العالم، وهنا لابد من توفير بيئة الإبداع والابتكار للوصول إلى هذا المردود
ولو تحدثنا عن البيئة الاستثمارية الثقافية، على سبيل المثال، بيّن الحناوي توفر العديد من المقومات وأهمها المناخ، والوعي الاجتماعي، وطبيعة الإنسان في هذه المحافظة، إضافة إلى الطاقات الشابة المبدعة القادرة على استثمار البنى التحتية التي توفرها وزارة الثقافة لرعاية المهارات المتنوعة الموجودة في مجالات الفن، والمسرح، والموسيقا، والرسم، والغناء، مشيراً إلى أهمية التركيز على المحلية، ونشرها في العالم عبر عصرنة التراث المحلي، وهذا يعطي تميزاً، ولتحقيق حالة الاستثمار هذه لابد من وجود نظام مالي مستقل بوزارة الثقافة تستطيع من خلاله الاستثمار الأمثل بما يساهم في رفع السوية الفنية والفكرية في المجتمع.
إذاً هناك مهام كبيرة بانتظار الثقافة في المرحلة المقبلة لمواجهة الانزياح الثقافي الذي حصل في مجتمعنا، والاستثمار في مجال الثقافة خير استثمار سواء معنوياً أو مادياً، ففي الجانب المعنوي لابد من التركيز على ثقافة العمل التي كانت إحدى أهم القيم للشعب السوري الذي تميّز بإبداعه في العمل، وترك أثره الملفت في مهنته، إلا أن تسرب قيم العولمة وثقافة الاستهلاك والربح السريع كانت مقدمة لتغير سلبي طرأ على ثقافة العمل، خاصة بعد ممارسات تتعلق بالكسب غير المشروع عبر عمليات الخطف والسلب والقتل والاحتيال، الأمر الذي يستدعي إعادة الاعتبار لقيم ثقافة العمل وأخلاقيات المهن، وسبل الكسب المشروع، وكذلك التركيز على ثقافة العيش المشترك، ومعالجة التصدعات التي أصابتها خلال السنوات الماضية، رغم أن تجربة الأزمة أظهرت أن ثقافة التعصب والتقوقع لا تحل المشكلة، فيما يساهم الحوار بتعزيز السلم الأهلي، والتماسك الاجتماعي، وهو أكثر الوسائل فعالية لحل الخلافات، وبناء مصالحات قابلة للبقاء، أما مادياً فمن المفيد استثمار تلك الصروح التي تصفر في معظمها الرياح طيلة أيام الشهر بشكل ينعكس مردوداً مالياً داعماً للاقتصاد الوطني.